فرصة ضائعة .. مشكلة تحتاج إلى حل
قد تكون السعادة بين أيدينا ولا نعرفها .. وربما يمر العمر ونحن نبحث عن ما نملك ولا نُدرك .. تلك هي الحقيقة التي اكتشفتها ولكن بعد فوات الآوان.
قصتي تبدأ في قاعة مناسبات حيث كان اليوم حفل زفاف إحدى قريباتي، وكانت الحفلة مقتصرة على العائلة فقط .. كنت أرى نفسي أجمل الموجودين وأكثرهم جاذبية وثقافة وليس هناك سبب لهذا الشعور فأنا مقبولة الشكل ولا أهتم كثيرًا بالثقافة .. لكن غروري كان يراني هكذا.
ولمحت من بعيد شاب لم يكف عن النظر لي من المؤكد أنه أحد أقارب العريس أو ربما صديق مُقرب .. ولما لا وليس هناك أجمل مني ولا حتى العروسة .. قررت أن أنظر له نظرة تعني أن لا يكتفي بالنظر ويحاول أن يقتحم سجن حياتي .. وهذا كل ما استطيع فعله .. بل هو أكثر مما أستطيع في الواقع.
فأنا شابة أبلغ واحد وعشرين عام .. كنت الابنة المتوسطة من بين أثنين .. أختي كانت تكبرني بثلاثة أعوام ومتزوجة ببلد عربي وأخي أصغر مني بثلاثة أعوام .. أما أبي فيعمل في مركز مرموق ومكانة متميزة لكنه متوسط الحال.
وكان قاسيًا إلى حد الصلابة .. صارم في تشدده متمسك بالتقاليد القديمة التي كان يراها قانون مَن يخرج عليه يكون مجرم .. أما أمي فكانت ربة بيت قديمة وضعت كل مفاتيح سعادتها في يد أبي وكذلك كل ما يخص مستقبلنا.
كان أبي يرى أن ليس هناك أي اسم لعلاقة شاب بفتاة، سوى الارتباط وأي اسم غير هذا مرفوض .. وعلى الرغم من هذا كان تعليمنا جميعًا في مدارس مختلطة .. لكن كنا نعلم أين نقف .. وإلا العقاب لا يعلمه سوى الله .. كنت مطيعة لكن بداخلي تمرد ورغبة في تكسير هذه القيود .. كنت أريد أن انسلخ من جلدي .. وأشعر أن من المؤكد هناك حياة لا أعلمها، وربما تكون أجمل بل بالتأكيد سوف تكون أسعد.
انتهى الحفل وعدت إلى المنزل مع عائلتي وبداخلي حسد لقريبتي .. فقد أصبح لها مملكة خاصة بها وقرار هي صانعته .. تمنيت أن يكون لي ما عندها وأن أتخلص من كل هذه القيود .. ساعات كثيرة أفكر ما هو سر معاناتي ؟ والواقع لم أجد رد مقنع سوى أنني أريد أن أتذوق صنع قرار وتجربة الخروج عن قوانين أبي.
مرت أيام من بعد الحفل .. حتى جاء يوم وطلب أبي التحدث معي في أمرًا هام .. وكان هذا الأمر أن هناك شاب يريد الارتباط بي .. وهو صديق زوج قريبتي .. لم اسمع باقي مواصفاته فالفرصة قد حانت لتحقيق حلمي .. وبدون تردد صمت برهة مع ابتسامة رضا .. فعلم أبي الرد.
وسرعان ما تمت الخطوبة وكنت اظن انه ذلك الشاب الذي لم يدر وجهه عني .. ولكن لم يكن هو .. ولم يشكل هذا فرق .. ورغم أن هذا الشاب كان بمركز محترم لكنه لم يكن غني بل على العكس .. كان مثقف وطموح لكنه متوسط الحال .. لم يهمني حاله المتوسط فأنا أبحث عن حريتي وليس عن المال .. اتفق أبي وعائلة الشاب على إتمام الزواج بعد عام من الخطوبة، وذلك حتى أنهي آخر عام دراسي لي.
وخلال العام كان خطيبي يحاول أن يفهمني ويشاركني اهتماماتي حتى وإن كانت تافهة .. أما أنا فكنت لا أراه ولا اشغل نفسي بما يحب أو يكره .. كانت كل قريباتي تراه شاب مثقف ذو خلق ودين تتمناه أي فتاة .. أما أنا فكنت أراه مرحلة لابد وأن أدخلها لأصل إلى غايتي ..
مر العام وتزوجت وكم كنت سعيدة ببيتي وانفرادي بكل شيء .. وكان زوجي هادئ أو هكذا كان يتعامل معي .. وكان يترك لي قرار كل شيء لأن هذا يسعدني .. وبعد عامين رزقني الله بطفل .. كان زوجي يطير فرحًا بي وبه .. ولكني كنت أشعر بأن هناك قيود لم أحسب لها.
وطوال العامين لم أشعر بالسعادة التي كنت اتمناها .. الحياة رتيبة مملة .. فزوجي رجل هادئ يعود من عمله إلى البيت وإذا خرج تكون زيارة عائلية ومعظمها لعائلتي فقد كان لهم نعم الابن .. فلم يكن له أحد سوى شقيق متزوج فقط.
أما الإجازات فكان يقضيها وهو يقوم بتحضير طعام الغذاء لنا .. وتنظيف البيت بالكامل والخروج في العصر لشراء ما يلزم .. وفي العشاء نخرج للعشاء بأحد المطاعم أو نذهب في نزهة .. كم كنت أراها حياة يملؤها الملل .. وفي فصل الصيف كنا نذهب إلى أحد المصايف وكان زوجي يصمم على اصطحاب عائلتي معنا.
مرت الحياة وأنا أراها لا تطاق وكل يوم اتمنى أن تتغير .. إلى أن جاء يوم وافلست الشركة التي يعمل بها زوجي وتعثرت الحياة به .. فلم أستطيع أن تضيع الفرصة وعرضت عليه أن أعمل لأساعده في المحنة.
والحقيقة أنني وجدتها فرصتي للخروج من هذه الحياة .. وبالفعل وافق على مضض .. وعملت في شركة كبيرة لخدمات الترجمة .. وكنت أتقاضى مبلغ كبير لا أساهم منه في البيت إلا بالربع فقط .. والباقي اشتري به ملابس وحُلي رغم ما عندي .. ولم يتذمر زوجي أو يشتكي .. بل كان يعمل بوظيفتين لكي يقوم بما عليه.
وبعد سنوات عثر زوجي على وظيفة مرموقة براتب كبير .. وهنا قال لي أن علي أن أترك وظيفتي التي جعلتني أهمل طفلي وبيتي وأهمله .. وخاصًة أني لن أكون في مركز أفضل مهما قضيت من وقت بها .. فطبيعة عملي ترجمة كتب ومن الممكن إنجازها من البيت.
كان الحديث منطقي وصحيح .. لكني انفجرت في وجهه وعايرته بما حدث وضياع وظيفته ولم اكتفي بهذا .. بل أكدت له أنني لم أعمل من أجله بل من أجلي .. وإن خيرني بينه وبين عملي سوف اختار عملي .. فأنا لم أحبه ولم أراه أبدًا .. كان يستمع وهو صامت وكأنه يقول لي كنت أعرف لكني أكذب نفسي .. وبعد أن أنهيت كلامي تركني وخرج.
وبعد هذا اليوم تغيرت الحياة إلى الأبد .. كنت أنا دائمة الشجار وافتعال المشاكل والإهانات له .. وهو صامت لا يتكلم إلا بجملة واحدة وهي أنه يخشى علي من يوم الندم.
وبعد شهور من هذا الحال .. عاد زوجي يوم من عمله وكالعادة كنت سوف أبدأ شجار كل يوم .. لكنه قال لي هذا يكفي لقد تحملت كل هذه المدة من أجل عدم هدم هذا البيت لكن احتماله قد نفذ .. وطلقني وخرج من البيت.
لم أشعر بسعادة مثلما شعرت في هذا اليوم .. أخيرًا سوف أكون حرة تمامًا وكل مسئوليتي طفل لا يتعدى السبعة أعوام .. واتفقنا على أن يبقى الولد معي أيام محددة وأن يذهب إليه ثلاثة أيام في الأسبوع .. ولم يقصّر يوم في مصاريف الولد أو شراء هدايا له .. كان ولدي يشبهه في ذكائه وخلقه وطموحه السابق عمره .. لكني لم اعترف بهذا يوم.
مرت الأيام وتغيرت حياتي كما أردت .. دخنت السجائر وكم كنت أخرج للسهر مع الأصدقاء .. عشت سنوات حياة ليس لها قيود أو حدود .. حتى أمي وأبي رحلوا ولم أحزن كما ينبغي أن يكون .. رغم أنهم قدموا لي كل شيء.
ولكن وبعد أن مضى بي العمر .. شعرت بأن العالم أصبح فارغ فما تبقى من عائلتي قد ابتعدوا عني بعد الإنفصال لأن زوجي لا يستحق ما فعلت .. حاولت في البداية اختلاق أسباب تجعله سيء لكن لم أفلح .. فهو فعلًا كان ابن بار لأبي وأمي وعائلتي كلها ولم أكن كذلك.
أما صديقاتي فكلهم ابتعدوا عني خشية على أزواجهم .. والرجال الذين كانوا يحيطون بي في سهراتي .. كانت بيوتهم في النهاية هي مكانهم الطبيعي .. رأيت الحياة موحشة ليس لها طعم بدون بيت به من يُعين ويؤنس الوحدة .. ورغم أنني كنت دائمًا أرى جمالي لا يقاوم .. لكن لم يتقدم أحد للارتباط بي بعد الإنفصال .. شعرت بحنين إلى يوم الجمعة وما كان يفعله زوجي فيه.
أدركت بعد وحدتي أن ما كنت أملك كان يتمناه الكثير .. حتى أبني نظرت له ووجدته بكل كيانه مع والده .. ولم أتعجب فقد كان زوجي أم وأب له .. لم أضيع الفرصة لكي أصلح غلطتي وحاولت أن أتقرب لأبني الشاب الصغير .. لكنه ورغم معاملته الطيبة لي .. كان لا يراني كما كنت لا أرى والده.
تمنيت أن أعود لزوجي وحاولت أن أوسط بيننا عائلتي .. لكن الأوان قد فات بالفعل .. فما فعلته به صعب النسيان .. رغم أنه لم يتزوج بعدي.
وتركت عملي وتفرغت لأبني عسى أن أستطيع بناء بيت أنا التي هدمته.. فوجدتني وحيدة ثلاثة أيام بل الاسبوع بالكامل .. لأن ولدي رغم وجوده في البيت كان عقله في مكان آخر .. كما كنت أنا في يوم ما.
غرقت في ندمي ليالٍ كثيرة حتى مرضت بمرض شديد .. واكتشف الطبيب إصابتي بالسرطان .. ولم أجد بجانبي سوى طليقي يقف بكل ما لديه معي أمام مرضي .. يذهب معي بجلسات العلاج ويرعى ولدنا .. فتجرأت يوم وطلبت منه الرجوع لكنه رفض بأدب شديد وقال لي أن ما بيننا أصبح أقوى من الرجوع.
أنا الآن أتمنى أن يعود لي ولبيته .. وأعلم أن ما فعلته ليس بالشيء الهيّن .. وأن سعادتي الحقيقية كانت في يدي لكني كنت أبحث عن سراب .. فهل هناك فرصة ثانية لكي يعود .. أرجو الرد.